الأطباء في زمن كورونا
قبل أن تصير طبيبا وجب أن تمر من جميع الأسلاك التعليمية
بتفوق على أقرانك .وجب عليك أن تقضي معدلا
رهيبا من الساعات يوميا واضعا عقلك بين
دفتي كتاب . وجب عليك أن تخسر جزءا عريضا
من طفولتك و مراهقتك و شبابك لصالح المنافسة الرهيبة التي يفرضها عليك النظام
التعليمي . وجب عليك الصعود إلى الهملايا متخطيا العقبات الأكاديمية و المادية
للوصول إلى منصب طبيب في مسشفى عمومي .
أنت الآن طبيب وجب عليك أن تكون على علم بآخر التحديثات
العلمية في جميع أنحاء العالم و أن تكون على علم بالأدوية الجديدة . و ستواجه
ضغوطات - إلى حد الخنق – في الإدارة و في غرف المستشفى و في الطوارئ ..و يجب عليك
التحايل على شركات الأدوية التي تضغط في اتجاه تسويق ماركتها و علامتها .
بالنسبة للسياسيين و الاقتصاديين و المسؤولين الذين
يعتنقون عقيدة : الوقت هو المال ، فأنت تمثل لهم فقط موظفا بسيطا و عاملا آخر من
عمال الصحة و التربية و حتى النظافة ما
دام الكل سيمر من التعاقد أجلا أو عاجلا ..مطلوب منك القيام بما كونوك عليه :
معالجة المرضى باحترام (من يأبه للحب و
المشاعر و الإنسانية ) و المرضى سينظرون
إليك كميكانيكي لجسم الإنسان و عليك أن لا تقع في الخطأ و عليك تكون في مستوى
تركيز عال و عليك أن تحل المشكلة .
الكذبة الشائعة أن الأطباء يكسبون الملايين ؟ لا أعرف
بالضبط مدى صحة هذا الطرح ، و لكن أدرك
أنهم يكسبون أجرًا زهيدًا ، مع مراعاة درجة المسؤولية التي يتحملونها
أمام الحياة البشرية التي هم ضامنين لها بعد الله سبحانه و تعالى . و ليس كل الأطباء يزاولون مهنتهم في مؤسسات
تستثمر أموالها في البؤس .
تعودنا على بعض وسائل الإعلام التي تطل على التعليم و الصحة بوجه
الحية القبيح و تحمل العاملين في هذين الميدانين الاستراتيجيين مسؤولية فشل هذين
القطاعين . و لكن مع جائحة كورونا أطلوا على الصحة بذكاء المنافق .
أخيرا اكتشفوا أن هناك في المستشفيات
العمومية هناك
"ملائكة " تحوم في المستشفى و تخاطر بأجسادها في الخط الأمامي .
بين أنقاض اليأس تجمع الأشلاء و الجرحى .
في هذا الوقت العصيب هم الوحيدين القادرين
الذين يمدونك بالأمل و التعاطف .. في الوقت نفسه ، نحن خارج المستشفى في
حالة من الذعر في الشوارع من عدو لا يرى .
و لا نجرأ على الاقتراب منهم ...
فجأة ضجت وسائل التواصل الاجتماعي
ببطولات "عمال الصحة " و من
المؤسف جدا أن هؤلاء الذين يهللون بعمال الصحة هم و غيرهم الذين يهينونهم أثناء
ممارسة عملهم و هم الذين يشوهونهم في مجالس أحاديثهم و في وسائل الاعلام ..و هم الذين
يصوتون على ممثين برلمانيين لتقليص ميزانية الصحة و التعليم .
لعل الوباء يفتح أعيننا ببطء ، و أتمنى أن
تنقشع غيوم كثيرة تحجب الواقع . نحن نواجه عدوا لا يرى ، و غير ممكن رشوته ، لا
يمكننا ازاحته بمخزون السلاح لدينا أو بجدال أو حوار .عدو لا يميز بين اللون و
العرق و الجنس ، لا يهم ان كنت ثريا أو فقيرا أو رياضيا أو دكتورا أو مصرفيا أو مياوما ..كل الفئات الاجتماعية
تمثل له مزرعة خصبة تطعمه و تساعده على العيش و التكاثر .
انتهى العمل السياسي ، رغم أنه لا غنى عن
السياسة الحاضنة الأولى لجميع المجالات الأخرى .
فقط بقي الأطباء يقومون بعملهم الجبار
لانقاد أرواح مخاطرين بحياتهم ، يضعون على وجوههم ابتسامات و نظرة أمل قبل وضع
الكمامات يحاولون تهدئة المرضى و الجمهور الذي عودهم على الاهانات و عدم التقدير و
الاحترام . رغم اليأس و الدوران في دوامة فارغة ، بقوا مرابضين في أماكنهم في
انتظار أن يمدوهم العلماء بالدواء . رغم
أنهم يعانون خصاصا في الأدوية و المعدات و لا يمتلكون دواء للفيروس .
إنهم صامدين في أماكنه مع مستقبل غامض و
نظام لا يعترف لهم بحقوقهم المادية و يقلص من إمكانيات تدخلهم بسبب تقليص
الميزانية . يقومون بذلك بكل صبر و تفان ، هم يدركون جيدا تلك النظرة الإنسانية
العميقة التي نفتقدها نحن في مجالات عملنا : المرضى هم بشر مثلهم ، و في نهاية
المطاف لا يبحثون إلا عن يد يتشبثون بها ليمسكوا بالأمل.
يجب أن تتوقف وسائل الإعلام عن وصفهم
بالإبطال . لأنهم أكثر من ذلك يجب أن تصفهم بالشركاء . و هذا أقل اعتذار منها .
لأنها سكتت دهرا عن اهانتهم و عدم احترامهم و استغلالهم و حتى ضربهم .
هؤلاء هم الشهداء الإحياء ..و علينا أن
نحدد الشهداء الباقيين و الآتيين .. في الوقت الحالي يخيفني الجواب .و أتمنى من
العلي القدير أن يكون لطيفا بالبشر الذي زاغ عن الطريق الصحيح و اختار العيش
بطريقة خاطئة .